حلم مراهق
كان قد اعتاد رؤيتها ، شأنها شأن سكان الحي الآخرين ، كلما سار في طريقه إلى المدرسة ، أو عاد إلى البيت منها . يراها أغلب الأيام ، أو كلما أرسله أحد أفراد أسرته لقضاء حاجة من دكان البقالة ، التي تجلس فيها بعد انتهاء دوامها المدرسي ، منذ أن مات أبوها .
ولم يكن الولد الحالم يعلم قبل أن تدهمه حالة المراهقة ، على حين غرة ، سر تعلقه بها ، سوى أنها جارة مهذبة ومكافحة ، تبيعه ما يطلب من احتياجات البيت التي تتوفر لديها ، بدقة وتهذيب ، وفوقهما ابتسامة بريئة ، وما إن تنتهي ، حتى تجلس على الكرسي البائس ، وتفتح كتابها المدرسي ، تراجع دروسها .
تعود رؤيتها ، كما تعود رتابة أيامه ، وكان يراها في أحلامه الطفوليــة شيئا خاصا ، حتى إذا ما بدأ يدرك معنى الرجولة والأنوثة ، صار ينتبه إلى رغبته في أن يجالسها ويحادثها ، وينتبه إلى احتدام فورة دمائه ، إذا ما جاءها للشراء .
ثم صار للأمر معنى آخر ، منذ أن اشترى يوما حاجياته المعتادة ، ونقدها الثمن فلمست أطراف أصابعه يدها الدقيقة ، فشعر بكهرباء تلسعه في أعصابه ، في اللحظة التي احمرت فيها وجنتاها . ومن يومها بدأ يدرك أنه ما عاد ولدا ، وما عادت روعة بنتا بريئة .
ورغم تأجج رغبته في رؤيتها ، صار يرفض من يومها ، وقد صار شابا أن يذهب مراسلاً للأسرة في شراء احتياجاتها من بقالة "أم مريم" القابعة في منحنى الحارة التي تبدأ بالمدينة الرياضية ، وتنتهي بمقبرة الشهداء في طرف المخيم . لكنه ظل يحرص على السير في طريقه إياها الموصلة إلى المدرسة الثانوية ، يسير ببطء ويتطلع بعينيه مراقبا الأجساد الغضة ، التي بدأت تفور منها الصدور ، وتهتز منها الأرداف ، مثيرة مراهقة الفتية . يلمحها من بعيد ، فلا يقترب منها ، بل يراقبها عن بعد ، ويحلم بخصلات شعرها الكستنائية ، ولا يسمح لعينيه أبدا أن تتفرسا في صدرها أو في أردافها ، كما أنه لا يذكر أبدا أنه قد رآها في أحلام يقظته أو نومه ، عارية أو مضطجعة أو معانقة .
كل ما كان يخطر بباله أن تهف على وجهه بخصلة شعرها الناعمة ، فيغفو ، ثم حين يفتح عينيه ، يهتز كيانه لللحظ الجارح وللفم الذي يفتر عن ابتسامة ساحرة ، كانت كافية لديه لأن يجمع يوما كل شجاعته ويتقدم منها بلطف . بعد أن خلا الشارع إلا منهما ثم يهمس برقة وعذوبة خاصة ، وكأنما يكلم نفسه : أحبك .
لم تكن الكلمة توترا لحظيا أحدثته شفتاه في الهواء ، بل كانت فاتحة اللقاءات والمشاريع الخاصة ، التي بدأت بالخطبة والزواج وإنجاب الأولاد ، ثم تعليمهم وتزويجهم وانفتاح الحياة على امتداد اتساعها الممكن ، حتى أقفلت دورتها ، بعد أن أعطته كل ما اشتهاه .
وفي ذلك الصباح تراءت له كالإلهة ، حين انفرجت شفتاها عن ابتسامة خضراء ، ثم سارت ضاجة بالمرح والحياة ، فسار بقربها ، يود لو يصرح لها بكل ما يعتريه من مشاعر ، وما يؤرق لياليه ، ويقض مضاجعه .. لكنه لو يفهم حقيقة شعورها نحوه ؟
أيطلب موعدا في مكان هادئ ؟ أم يكتب لها ؟ أم يلقي برأسه كمجنون على الأفق الذي يلامس وجنتيها ؟
انسلت من دائرة الهواء الرطب الذي يحيط بمخيلته ، وغابت بين البنات داخل المدرسة ، قبل أن يتفوه بأمر تردد في تحديد ماهيته .
في مساء ذاك اليوم الربيعي ، اكتظت الشوارع بالمارة ، لكن حدسه الداخلي دفعه للبحث عنها ، وبعد برهة ، لمحها من بعيد برفقة صديقة لها ، تضج شبابا وحيوية ، وترتدي تنورة توحي بمفاتن عذراء ، مثيرة ، وقميصا اشرأبت النهود من تحته ، فائرة ومتحفزة للانطلاق ، كاد أن يحسد ذاته على نصيبه من الدنيا ، فهذه الحسناء ستغدو زوجته ، حين أبطأت المركبة الفاخرة، وسارت بهدوء شديد بمحاذاتها حين همس رفيق السائق لهما كلاما لم يسمعه بالطبع ، لكنه خمن كنهه ، ثم توقفت السيارة ، وركبت الفتاتان بهدوء.
وفي لحظة كانت تنطلق المركبة مع آهة حرّى ، حرقت كل ما في صدره من مشاعر الطفولة البريئة .